بقلم رزان الكيلاني
شهدت الأمومة عبر العصور تحولات جذرية، إذ انتقلت من كونها خبرة إنسانية متوارثة تعتمد على الحدس والخبرة الشخصية، إلى ساحة مراقبة اجتماعية وتجارية مكثفة. في العصر الرقمي، أصبحت الأم محط أنظار دائمة، حيث يتم تقييمها في مجالات متعددة تشمل التربية، والطهي، والأزياء، والنجاح المهني، والمشاركة الاجتماعية. هذا الضغط المستمر يُترجم إلى فقدان الثقة بالنفس، وزيادة القلق، والخوف من تفويت فرص أو معلومات أو منتجات مرتبطة بدور الأم.
ثقافة المقارنة في عصر التواصل الاجتماعي
في العقود الماضية، كانت الأمومة مرتبطة بالخبرة المتوارثة، والحدس الفطري للأم، والدعم من الدائرة العائلية. اليوم، تغيّرت الصورة جذرياً. فالأم أصبحت تحت المجهر في كل تفاصيل حياتها: الأمومة، الطبخ، الأزياء، العمل، وحتى حياتها الاجتماعية. هذا التدخل المستمر جعل كثيراً من الأمهات يعشن تحت ضغط دائم، ويشعرن بأنهن في سباق لا ينتهي مع معايير مثالية تفرضها وسائل الإعلام والإعلانات ومنصات التواصل.

المقارنة الدائمة وفقدان الثقة بالذات
وسائل التواصل الاجتماعي صنعت واقعاً موازياً حيث تُعرض الأمومة كلوحة مثالية: أطفال أنيقون، وجبات صحية مصورة بعناية، بيت منظم، وأم متألقة في كل وقت. هذه الصورة تجعل الأم العادية تشك في نفسها، وتشعر بأنها أقل نجاحاً أو أنها “تفوّت شيئاً ما”. بمرور الوقت، تضعف ثقتها بحدسها الطبيعي كأم، وتستبدله بمحاولة اتباع “النصائح الذهبية” المتناقلة عبر المنصات.
تؤكد الدراسات أن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل عاملاً رئيسياً في تشكيل الصورة المثالية للأمومة، حيث تُعرض الأم كـ”نموذج مثالي” دائم الأناقة والتنظيم، بينما أطفالها يعيشون في بيئة مثالية . هذه الصور تفرض على الأمهات معايير غير واقعية، مما يولّد لديهن إحساساً دائماً بالنقص، ويضعف ثقتهن بقدراتهن الطبيعية كأمهات.
استهلاك الأمومة وتحوّلها إلى سوق تجاري
لم تعد الأمومة محصورة في بعدها الإنساني، بل أصبحت مجالاً للتسويق والاستهلاك. تشير بحوث علم الاجتماع إلى أن “الأمومة الكمالية” (intensive mothering) ارتبطت بازدهار صناعة المنتجات والخدمات الموجهة للأمهات . في هذا السياق، يتم الترويج لفكرة أن الأم الجيدة هي التي تقتني أحدث المنتجات أو تتابع أحدث الصيحات، ما يخلق خوفاً مستمراً من تفويت فرصة تجارية أو عرض استهلاكي.
الأم بين العمل والحياة الاجتماعية
الأم العاملة تواجه ضغوطاً إضافية: أن تنجح في وظيفتها، أن تحافظ على أناقتها، أن تشارك في المناسبات الاجتماعية، وأن توازن كل ذلك مع مسؤوليات البيت. لكن كثرة التوقعات تجعلها تشعر بأنها مقصرة مهما بذلت من جهد، فتدخل في دائرة جلد الذات.
ضغط الأدوار المتعددة
الأم الحديثة تواجه توازناً معقداً بين العمل والحياة الأسرية والاجتماعية. فالمجتمع يطالبها بأن تكون موظفة ناجحة، وأماً مثالية، وزوجة حاضرة، وامرأة أنيقة، وهو ما يعزز “التناقض الثقافي” في التوقعات . هذا التناقض يولّد شعوراً دائماً بالتقصير، ويؤدي إلى إنهاك نفسي قد يصل إلى الاحتراق العاطفي.
لم تعد الأمومة مجرد دور حياتي، بل تحولت من رسالة إنسانية إلى فرصة تجارية في سوق ضخم للمنتجات والعروض التجارية. كل مرحلة من حياة الطفل، من الحمل إلى المراهقة، تُربط بمنتجات يجب على الأم اقتناؤها كي تكون “الأفضل”. هذا الضغط التجاري يجعل الأمهات في خوف دائم من أن يفوتهن عرض (Fear of Missing out أو FOMO) لعلامة تجارية أو معلومة “حاسمة” في رحلة الأمومة.
النتائج النفسية إثبات على عدم صحة التريندات الحديثة في مجال الأمومة والأبوة:
البحوث في علم النفس تشير إلى أن هذه الضغوط تؤدي إلى:
· زيادة مستويات القلق الدائم والاكتئاب بسبب الشعور بعدم الكفاء أو الجدارة كأم.
· تآكل الثقة بالحدس الأمومي، حيث تميل الأمهات إلى الاعتماد على نصائح خارجية أكثر من ثقتهم بخبرتهن الذاتية.
· إجهاد عاطفي مستمر يضعف جودة العلاقة بين الأم والطفل قد يصل إلى احتراق نفسي.
· تشتت الانتباه وفقدان التركيز على الأساسيات.
· تشويه صورة الأمومة من تجربة مليئة بالحب والحدس، إلى سباق للمقارنة والاستهلاك.
نحو استعادة الثقة بالحدس الأمومي
إن الأمومة في العصر الحديث أصبحت تحت ضغط مستمر من ثقافة المقارنة والاستهلاك، وهو ما يهدد الثقة الفطرية للأم بقدرتها على الرعاية. وللتخفيف من هذه الضغوط، هناك حاجة إلى تعزيز خطاب اجتماعي بديل يعيد الاعتبار إلى خبرة الأم وحدسها، ويدعو إلى دعم مجتمعي يركز على المشاركة والتضامن بدلاً من المنافسة والمثالية الزائفة.
الحل يكمن في إعادة الاعتبار لخبرة الأم وحدسها، بعيداً عن الصور المثالية. الأم التي تصغي لاحتياجات طفلها بصدق، وتوازن بين قدراتها وإمكاناتها، تمارس أمومة صحية أكثر من أي “دليل رقمي” أو إعلان تجاري. كذلك، تحتاج الأمهات إلى دوائر دعم حقيقية، تركز على المشاركة والتفهم بدل المقارنة.