هنّ _ خاص
الطبيعة العُمانية كانت وما تزال أول ملهم للفنانة التشكيلية مريم الحاتمية، وأقرب معلمٍ يوقظ في داخلها حواسًا خاملة. في تفاصيل القرى القديمة، وفي نزهاتها الصباحية بين السواقي، تولد بصيرتها الفنية، حيث البساطة تُخفي عمقًا لا يُرى، والمشي يتحوّل إلى حوار صامت مع الضوء والظل.
بين قطرات الماء وشفافية اللون، تنسج مريم حكاياتٍ لا تُروى بالكلمات، بل تُحسّ، حكايات تُشبه النور في هدوئه وقدرته على التسلل إلى الأعماق. من إحدى قرى الرستاق، تنبثق ألوانها لتقودنا في رحلة داخلية تمسّ الروح قبل أن تلامس العين. في هذا الحوار، نقترب من مريم، من رؤيتها، ومن أسئلتها التي ترسمها كما ترسم ملامح الضوء، ونتعرّف إلى فلسفتها التي ترى في الألوان المائية أكثر من مجرد خامة… بل وسيلة حياة تنبض بالتأمل والتعبير.

– بداية حدثينا عنكِ مريم لنتعرف إليكِ عن قرب.
مريم علي الحاتمي، فنانة عمانية من إحدى قرى الرستاق الهادئة. أُحبّ كل أنواع الفن، والألوان المائية قد شغفتني أكثر من غيرها لما لها من تأثير في تصفية وتهذيب الروح، تزيد الشخص قيماً نبيلة تُشبه النور. مهتمة بنظريات اللون ودراسات الألوان، أدوّن مذكراتي بطريقة اسكتشات مصغّرة. عضوة في جماعة أكاسيا للألوان المائية، ولي بعض المشاركات في المسابقات والمعارض المحلية والدولية، وأقمت ورشات تدريبية في مجال الألوان المائية على مستوى محلي.
كيف بدأت رحلتكِ مع فن الألوان المائية؟ هل كانت هناك لحظة معينة ألهمتكِ للانطلاق في هذا المجال؟
ابتدأتها في عمرٍ مبكر في بداية المرحلة الإعدادية، حينها اقتنيت أول علبة ألوان مائية ذات أقراص جافة، وما زلت أحتفظ بها. البداية كانت بمثابة رحلة استكشاف للخامة، لم تكن مبنية على أسس وتقنيات، وتجلت لي بشكل واعٍ بعد دراسة التخصص. الانطلاقة الحقيقية كانت بعد التحاقي بوظيفة معلمة فنون تشكيلية، وانضمامي إلى جماعات تضم فنانين في نفس المجال وورش وملتقيات ومسابقات. علّمت نفسي ذاتيًا، ووجدت أسلوبي الخاص بعد محاولات وتمرينات مستمرة. عندئذٍ، أدخلت شخصيتي الفردية في كل عمل أنتجه، وعليه يُميّزني المُشاهد.

– ما أبرز مصادر الإلهام التي تغذي خيالكِ الفني؟ الطبيعة، الموسيقى، الأدب، أم شيء آخر؟
الطبيعة العُمانية هي أول مُلهم وأقرب معلم، فهي لا تكتفي بإلهامي بصريًا، بل توقظ بداخلي حواسًا خاملة. أكثر ما يُثيرني هو النزهات الصباحية في القرى القديمة والسواقي؛ تبدو بسيطة لكنها عميقة الأثر. أجد في المشي وسط الطبيعة مساحة صامتة تُنبت أفكارًا بصرية جديدة.
تلهمني أيضًا لحظات التأمل الصامت، والموسيقى التي ترافقني في مرسمي. أحب الموسيقى التي “تُقال” من غير كلمات، كمقاطع البيانو وألحان التشيلو؛ كل نغمة هي خيط أسحب به لونًا أو خطًا.
تلهمني كذلك أمي، عندما تخيط النقوش على الأقمشة، وتنسّق ألوان ملابسها كل يوم. لم تكن فنانة بالمهنة، لكن عينيها وأصابعها ترسمان الحياة.
كما أن منصة يوتيوب لها دور كبير؛ تُجدد الحماسة بداخلي، وتفتح لي أبواب تقنيات جديدة. الجلوس مع زملائي الفنانين أيضًا يُعيد إحياء شغفي، ويجعلني أرى عالمي الفني بعيون مختلفة.
هل تفضلين العمل على مواضيع معينة مثل الطبيعة، الوجوه، أو التجريد؟ وما الذي يدفعكِ لاختيار هذه المواضيع؟
أقدّر القيمة الجمالية والفنية في كل نوع من المواضيع؛ لكل موضوع شخصيته وأثره بالنسبة لي وللمشاهد. الطبيعة تثير في النفس هدوءًا وسكينة، ويسهل التعبير من خلالها عن المشاعر الداخلية كارتباطي بالأرض واعتزازي بمقدساتها، وهي تُقدّم تنوعًا لا نهائيًا من أنواع الشكل الواحد، وتُعيد إحساسك بالقيم الموجودة في العالم.
أما عن تجربة موضوع الوجوه، ففي كل مرة أتعلم حوارًا جديدًا، كما لو أنها مرآة النفس. فهي بمثابة تحدٍ فني فائض في نحت التعابير وتشكيل الشخصية بأساليب وتقنيات متنوعة.
أميل إلى ترجمة كل ما هو أصيل ومرتبط بالأشياء التي تُشبهني بصمتها وصدقها، وتعرف كيف تترك أثرًا دافئًا. أما عن اختيار المواضيع، فيأتي وفقًا لتأثري وحساسيتي تجاه الأحداث، واهتمامي بما أتحمس له.

– هل تسعين إلى نقل رسالة معينة من خلال أعمالك الفنية؟ وما الرسالة التي تأملين إيصالها؟
لا أبحث عن إيصال فكرة صاخبة أو موقف مباشر، بل أُمرر شيئًا من الصمت الداخلي عبر أعمالي. الرسالة غالبًا ما تكون امتدادًا لما أشعر به، لا فقط لما أُتقنه.
أريدك أن تستمتع بهويتي، بروح الماء واللون كيف يتناغمان. لا أُحب إدخال المتلقي في متاهات مفاهيمية معقدة، بل أدعوه للتأمل بهدوء وارتياح. أتعمد ترك مساحات لونية حرة، بهدف إدخاله في جو آمن ومريح، كأنها لحظة صامتة.
أحمل إيمانًا راسخًا وأتمسك به بإصرار يشبه الدعاء، بأن أكون أيقونة فنية تعبّر عن أسلوبي في ترجمة الأشياء.
– ما الذي يجذبكِ في الألوان المائية مقارنة بالوسائط الأخرى؟ هل تجدين فيها حرية تعبير خاصة؟
يستميل قلبي ترطيب اللون بالماء وتركه ينتشر على البياض بشكل فضفاض وبعفوية بالغة وبطريقة سحرية تُعطي العمل شفافية. عندما أضع كل ضربة فرشاة بخفة، وأحاول مزج اللون الذي كنت أبحث عنه، يكون الحوار معه مريحًا وشفافًا وصريحًا، يتناغم مع سكوني وإيقاعي الداخلي. أعتبرها من الخامات المُهدئة غير المُرهقة.

كيف تعكس أعمالكِ مشاعركِ أو أفكاركِ الشخصية؟ وهل تعتقدين أن الفن وسيلة للتعبير عن الذات؟
نعم وبكل يقين. فهو المساحة التي أكون فيها على حقيقتي. الفنان العالمي سيزان يقول: “إنّ العمل الفني الذي لا يولد عن انفعال وتأثّر لا يُمكن أن يُعتبر فنًّا”. الرسم فن يتأثر بالانطباع الشخصي؛ فأنا أُحاول ترجمة التنوع الثقافي لبلدي بأسلوبي وتقنياتي اللونية التي تُعبّر عن انفعالاتي وتأثري العميق. أريد أن أُريك دواخلي اللامرئية كيف تبدو عبر فني.
من هم الفنانون الذين تركوا بصمتهم على أسلوبكِ الفني؟ وكيف أسهموا في تطوركِ كفنانة؟
وجدت نفسي أتأثر بالفنان البرتغالي Eudes Correia وكيف يحوّل الأشخاص العاديين الذين يسافرون في المدينة إلى أبطال عمله، تقنياته واختياره للمجموعة اللونية بمثابة توقيع له.
أيضًا، وجود فنانين عمانيين كانوا بوصلة البدء وخارطة الطريق لعالم الألوان المائية، الذين دمجوا التراث بالحداثة دون أن يضيعوا نكهة الأصالة، مثل أولئك الذين رسموا الخنجر والنخيل والبيوت الطينية بلغة تشكيلية جديدة. من خلالهم فهمت أنني أستطيع أن أكون حديثة دون أن أتخلى عن جذوري. تعلّمت منهم أن الضوء ليس مجرد إضاءة، بل شعور، ورؤية نفسي بشكلٍ أوضح. ووجب الثناء لهم وذكرهم كأيقونات فنية ورواد للألوان المائية في بلدي عُمان، مثل الفنانين التشكيليين أنور سونيا، فهد المعمري، سالم السلامي، وآخرين.
– ما التقنيات التي تعتمدين عليها لإضفاء عمق على أعمالك؟ وهل تجدين في الطبقات أو التدرجات اللونية وسيلة فعالة لتحقيق ذلك؟
لإضفاء العمق أعتمد على توجيه تقنياتي بشكل صحيح، وهي من أقوى أدواتي، ولكنها ليست الوحيدة. أبدأ العمل بألوان مضيئة، وأوزعها حسب جهة الضوء (قبلة الشمس)، ثم أتتبع الظلال، وأُعزز بعضها لزيادة القتامة، مع تغييرات مستمرة في المزيج اللوني؛ فلا أعتمد على قيمة واحدة أو لون واحد. أحب أن أترك الألوان تنتشر وتُنشئ مساحات غير مخطط لها باستخدام تقنيات مثل تسييح اللون بفرشاة مبللة أو بالبخاخ، وأضيف الملح أحيانًا.
أحترم المساحات المُضيئة لأنها توحي بالصيف المملوء بالضوء. كل طبقة لون أو ظل قد تحكي زمنًا أو شعورًا أو حتى سؤالًا. أُحاول دومًا الموازنة بين الفراغ والامتلاء، وأؤمن أن ما لا أضعه أحيانًا يكون بقدر أهمية ما أضعه، لأن للصمت في اللوحة صوتًا أيضًا.



– هل جربتِ دمج الألوان المائية مع وسائل أخرى مثل الحبر أو الألوان الزيتية؟ وكيف كانت تجربتكِ؟
تجارب الحبر من الخامات التي أفضّلها لترجمة مشهد آسر بشكل مباشر. الرسم بالحبر يشبه نحت الأشكال ببطء في الحياة، وهو من أكثر التجارب الإبداعية إرضاءً وتحررًا. جوهره العفوية والسرعة الفورية. أحيانًا أضيف إليه الألوان المائية، ليعكس طاقتي في اللحظة ويترجم حالتي الداخلية، فتبدو اللوحة وكأنها تتنفس من جديد. هذه اللمسة بالنسبة لي أشبه بابتسامتي الخاصة التي أتركها على العمل لتنعشه.
– ما العناصر التي تحرصين على دمجها في تصاميمك – مثل الألوان، الخطوط، الرموز؟ وهل تستوحين من الثقافة العُمانية؟
نعم، أستمد الكثير من الإلهام من الثقافة العمانية، ليس فقط من عناصرها البصرية، بل من قصصها، ومن الحياة اليومية في القرى والأسواق والسواقي.
أؤمن أن التكوين الجيد هو ما يحمل حكاية، وأستخدم أحيانًا نقوشًا عمانية تقليدية، كالمطرزات على الأزياء أو الزخارف على الأبواب القديمة. أحرص دائمًا على دمج عناصر ذات طابع وجداني وبصري في آن واحد.
– شاركتِ بعدة ورش للرسم المائي، ما أهمها؟ وكيف يمكن نقل المهارة الشخصية إلى الهواة؟
أشارك معرفتي بشغف وتواضع، تزكيةً مني لنور تلقيته، ورغبةً في أن يصل الجمال والمعرفة لمن يبحث عنها. أؤمن أن العلم لا يزدهر إلا حين يُشارك ويعود مضاعفًا.
نفذت عددًا جيدًا من الورش الفنية في مجال الألوان المائية داخل ولايتي وخارجها. أما عن نقل المهارة، فأحب أن أشارك خبرتي الفنية بلغة قريبة تبدأ بالأساسيات، ويتبعها البيان العملي والتجربة المباشرة لفهم المهارة والشعور بالخامة وطريقة تطويعها بخضوع جميل لتتحدث بلغتي.
أؤمن أن أفضل وسيلة لنقل الخبرة هي أن نرسم معًا، أن نُخطئ ونجرب، لا لأُشكلهم على صورتي، بل لأساعدهم في إيجاد صوتهم الفني الخاص، لأن الفن ليس قواعد فقط، بل لحظة حيّة.
– ما النصيحة التي توجهينها للفنانين الجدد الذين يرغبون في العمل بالألوان المائية؟
أود أن يعرف المهتمون بهذا العالم، أن لا طريقة صحيحة واحدة! لكن المعرفة بالأسس والتقنيات وتنوعها يمنحك الثقة الكاملة.
المجازفة، المغامرة، الصبر والتجربة المتكررة هي ما يقودك إلى أسلوبك الخاص. بعد أن تتمكن، اختر الخامات والأدوات التي تتلاءم معك وتتماهى مع إحساسك، فلكل سطح طريقته الخاصة.
فكر بشيء جديد في كل مرة، واعتنِ بالموضوع الذي ترسمه، امنحه وقتك وعاطفتك. سرعتك وثقتك عناصر نجاح مهمة.
نصيحتي أيضًا أن تبحث عن فنان يوجهك في مسارك، وألّا تنسى أن تُشجّع جمهورك على أخذ أعمالك بجدية. دافع عن فنك من خلال تأطير لوحاتك وتعليقها.
– هل هناك أخطاء شائعة تنصحين بتجنبها أثناء العمل بهذا الوسيط الفني؟
نعم، فالألوان المائية تحتاج وسيطًا مائيًا بكميات مناسبة وسخية. بعض الفنانين يستخدمون كميات قليلة من الماء، ما يصعب تحقيق أهم خصائص المائي، مثل الشفافية والتدرجات.
من المهم الحفاظ على مناطق الضوء بترك بياضات عشوائية غير مطلية، وإن لزم الأمر يمكن استعادتها ببعض التبييض الخفيف.
القصة التي تُروى بالألوان المائية لا تحتمل كثافة التفاصيل، بل تميل إلى التلخيص والعفوية.
أيضًا، يجب غسل الفرشاة بعد كل انتقال لوني للحفاظ على صفاء اللون.
ومن الضروري معرفة نوع الورق المناسب، فشخصية الورق تحدد سرعة أو بطء انتشار اللون. ابدأ دائمًا بألوان مضيئة على سطح مناسب.
– كيف تحافظين على إبداعك وتجدين الدافع للاستمرار في الفن؟
الفن علاقة طويلة تتطلب رعاية واهتمامًا مستمرين، وهو أسلوب حياة. أحرص على التدريبات المتواصلة، وأسمح لنفسي بأن أخطئ وأتعلّم دون ضغط النتيجة.
أجد في نزهات الرسم المباشر في الطبيعة مصدرًا متجددًا للدهشة والصفاء. جلوسي تحت ظل نخلة على ضفة فلج، ومراقبتي للضوء وهو يتغير، يكفي لبدء حوار فني صادق.
أحيانًا لا أبحث عن الدافع بقدر ما أبحث عن الهدوء، فعندما أعود إليه، يعود إليّ الإبداع.
كما أن المشاركة في الدورات التدريبية لفنانين عالميين، واقتناء المراجع والموسوعات الفنية، يُعيد ترتيب بصيرتي ويمنحني رؤية أعمق. لقاء الفنانين أيضًا يفتح آفاقًا جديدة ويجدد الشغف داخلي.


– ما أبرز تجربة لكِ في معرض فني أو ملتقى؟ هل هناك موقف أو تفاعل خاص ترك أثرًا فيكِ؟
من أبرز التجارب العالقة التي أثْرتني فنيًا كانت تقديم ورشة على مستوى السلطنة ضمن فعاليات الملتقى الفني الأدبي لعام 2022 في مسقط، حيث لاقت استحسانًا كبيرًا. خرجت من هذا الملتقى أكثر إيمانًا بأن الفن ليس ترفًا، بل لغة خفية.
كما أن مشاركتي في مسابقة “أولمبيارت” بالعاصمة الهندية نيودلهي عام 2024 على المستوى الدولي كانت تجربة مميزة، حيث لاقى العمل تفاعلًا كبيرًا من زوار المعرض، وكأن شيئًا بداخلهم تعرّف إليه.
– هل لديكِ مشاريع فنية أو معارض قادمة تعملين على تجهيزها؟
نعم، أعمل حاليًا على مجموعة جديدة أستكشف فيها أفكارًا تحمل هويتي، من خلال تجارب لونية وتقنيات مختلفة. أحضّر لعرضها في مرسمي الخاص كمعرض مصغّر خلال الأشهر القادمة، بإذن الله، وسيكون بمثابة مشاركة هذا النور مع العائلة أولًا لأنه يستحق أن يُرى ويُحتفى به، وأيضًا بدافع التشجيع والاهتمام.
كما أستعد للمشاركة في معارض قادمة مع نخبة من الفنانين المتخصصين في مجال الألوان المائية.
– ما نوع التجارب أو التقنيات الفنية التي تتطلعين إلى استكشافها مستقبلًا؟
خوض التجارب الجديدة بالنسبة لي يشبه السفر، يحمل معه التحدي واللذة. لا أبحث عن الكمال، بل عن الاكتشاف.
أشعر بفضول تجاه عوالم الأبيض والأسود وتقنيات التنغيم بالفحم والرصاص، وأراها تستحق الاحترام العميق. هذه الوسائط مثيرة للدهشة وتحتاج قلبًا يقظًا. أؤمن بأنها ستُعينني على إعادة تشكيل نفسي بيد مختلفة؛ أكثر فضولًا، شغفًا، وقربًا من الحياة.