هنّ _ خاص
في زوايا لا تراها أعين الكثيرين، تلتقط المصورة العُمانية غنية المجرفية صورًا نادرة للحشرات بعدسة المايكرو، كاشفةً عن عالم دقيق ينبض بالحياة والدهشة. ومنذ عام 2017، اختارت غنية أن تتفرد في هذا المجال الاستثنائي، لتكون أول عُمانية تخوض غمار تصوير الحشرات عن قرب، محققة إنجازات عالمية، أبرزها فوزها بالمركز الثاني في مسابقة “لومينار” البريطانية عام 2021. في هذا الحوار، تفتح لنا غنية كواليس تجربتها الفريدة، وتحدثنا عن مغامراتها خلف العدسة، ورؤيتها للفن، ورسالتها في إبراز الجمال في أدق تفاصيل المخلوقات.
كيف بدأت رحلتكِ مع التصوير المُقرَّب؟ وما الذي جذبكِ إلى عالم الحشرات تحديدًا؟
كأي مصور فوتوغرافي، بدأت تجربتي بتجريب مختلف أنواع التصوير. لكنني وجدت شغفي في مجال الماكرو بعد متابعتي لأعمال مصورين محترفين عرضوا صورًا مدهشة للحشرات عن قرب على المواقع الإلكترونية. كنت دائمًا محبة للطبيعة والحشرات منذ الطفولة، ومع نصيحة أختي بأن أتميّز في مجال مختلف، وجدت نفسي أنجذب بشدة لهذا النوع من التصوير. قررت أن أتعمق أكثر فيه لأُظهر تفاصيل لا تُرى بالعين المجردة، وأُثبت اسمي كفتاة متخصصة في تصوير الماكرو.
ما أول صورة مايكرو التقطتِها؟ ومتى أدركتِ أن هذا هو مجالك الحقيقي؟
عندما قررت خوض هذا المجال، ذهبت لشراء عدسة مايكرو رغم ثمنها المرتفع. بعد العودة إلى المنزل، بدأت رحلتي في البحث عن الحشرات، والتقطت أول صورة لحشرة الجندب – وهي حشرة شائعة ويسهل تصويرها. النتيجة لم تكن كما توقعت؛ لم تُشبع شغفي، بل شعرت ببعض الإحباط. كنت أتوقع أن تظهر تفاصيل دقيقة كما رأيت في الصور المنشورة. لكنني لم أستسلم. أيقنت أن بداية كل مصور محترف كانت متواضعة، ومع الاستمرار والتعلم يمكن الوصول. المتعة التي شعرت بها في أول رحلة تصوير كانت كافية لأدرك أن هذا هو مجالي.

كثيرون يهابون الحشرات أو ينفرون منها.. كيف اكتشفتِ الجمال في عالمها؟
واجهت في البداية رفضًا من البعض، بسبب مفاهيم مغلوطة أو موروثات اجتماعية تنظر للحشرات على أنها مزعجة أو ضارة. لكنني كنت أؤمن أن الله لم يخلق شيئًا عبثًا. لكل كائن دور في هذا الكون. من خلال صوري، حاولت تغيير هذه النظرة، وبيّنت أن الحشرات كائنات جميلة ومتكاملة ولها وظائف بيئية عظيمة. مع مرور الوقت، بدأ الناس يتفاعلون مع أعمالي، وبعضهم أصبح يطرح أسئلة حول أنواع الحشرات وهل تعيش فعلًا في بيئتنا. تعاملت مع طلاب وباحثين جامعيين، وأرسل لي بعضهم طلبات لدراسة حشرات معينة من صوري. هذا التفاعل أسعدني كثيرًا.
■ مغامرات خلف العدسة:
ما أبرز التحديات التي تواجهينها أثناء التصوير في الطبيعة؟
أهم التحديات كانت في البداية هي فهم الصورة الصحيحة، من حيث الزاوية والإضاءة وتكوين العناصر. إلى جانب ذلك، كان من الصعب إقناع البعض بأن تصوير الحشرات فن راقٍ وله رسالة. التصوير المقرّب يتطلب صبرًا كبيرًا، فالحشرات لا تثبت في مكانها، وأحيانًا يصعب العثور عليها، خاصة في غياب بيئة نباتية مناسبة. الطقس أيضًا يشكل تحديًا، فالرياح والحرارة تؤثران سلبًا. لكن رغم هذه الصعوبات، هناك شعور لا يوصف بالرضا عندما تخرج الصورة كما حلمت بها.
أخبرينا عن المشهد المثير الذي التقطتِه للسرعوف وهي تلتهم سحلية، والذي كتبت عنه CNN.. كيف حدث ذلك؟
حشرة السرعوف مدهشة بحق، فهي تتحول إلى مفترس شرس عندما تشعر بالجوع. في أحد المساءات، وبعد جولة تصوير جميلة في مزرعتنا، مررت بالمخزن صدفةً، وإذا بي أشاهد مشهداً نادراً: أنثى السرعوف في صراع عنيف مع سحلية كانت تحاول النجاة والتشبث بالحياة. ورغم فارق الحجم، إلا أن السرعوف لم تتردد، وبقوة مخالبها الحادة وسرعتها الهائلة، تمكنت من التغلب على السحلية وبدأت في التهامها دون توقف، حتى انتهت منها بالكامل. كانت وجبة دسمة وكافية لها، أما أنا فثبتُّ في مكاني أراقب وسجلت المشهد بعدستي حتى اللحظة الأخيرة.

هل يتطلب هذا النوع من التصوير معدات أو تقنيات معينة؟ وما أهمها؟
مع ازدياد شغفي بتصوير الماكرو ورغبتي في التعمق أكثر في هذا المجال، بدأت باقتناء معدات متخصصة تساعدني على تحقيق نتائج دقيقة وجذابة. من أهمها العدسات المخصصة لتصوير الحشرات، مثل عدسة 100mm Macro وعدسة 65mm Macro، حيث تتيحان تكبير أجزاء دقيقة من الحشرة بتفاصيل مذهلة. كما أن هناك ملحقات أخرى تعزز من قدرة التقريب. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الإضاءة دورًا جوهريًا، لذا أحرص على فهم طرق تنعيمها باستخدام المشتتات (diffusers) مع فلاش الكاميرا (speedlight) للحصول على إضاءة ناعمة وطبيعية. ومع التعمق في هذا المجال، تزداد الحاجة إلى معدات وتقنيات أكثر احترافية لضمان جودة الصور.
كيف تتعاملين مع عنصر المفاجأة عند التصوير الميداني؟
من خلال أعمالي، يتضح أنني أعشق توثيق البيئة الطبيعية للحشرات، والاستفادة من الإضاءة والألوان المحيطة التي تضيف جمالاً وواقعية للصورة. أحب عنصر المفاجأة والصدف غير المتوقعة، فهي أحد أسباب شغفي بالتصوير الخارجي. كثيراً ما أخرج بحثاً عن حشرة معينة، لكنني أُفاجأ بلقاء حشرة أخرى في وضعية مدهشة، أو أكتشف أنواعًا جديدة لم أصورها من قبل. أحيانًا أشاهد سلوكيات مذهلة، كطريقة تغذّي الحشرات أو صراعها مع أخرى أو لحظات الافتراس، وكل ذلك يمنح الصورة روحًا وقصة. لذلك أحرص دائمًا على حمل الكاميرا معي أينما ذهبت، سواء إلى المزرعة أو أثناء نزهاتي خارج المنزل، لأكون مستعدة لأي لحظة استثنائية تستحق التوثيق.


■ التقدير والنجاح
فزتِ بجائزة دولية مرموقة عن صورتكِ (Mantis) في مسابقة لومينار.. كيف كان وقع الفوز عليكِ؟
شعرت بسعادة كبيرة وفخر عميق بتحقيق هذا الإنجاز، خصوصاً كوني امرأة عربية تمكنت من منافسة عدد كبير من المصورين من مختلف أنحاء العالم. كان التنافس في المسابقة شديداً، حيث شارك فيها 800 مصور متخصص في تصوير الحشرات وأكثر من 5000 مشاركة. بما أن هذه المسابقة أقيمت بالتعاون مع المنظمة الخيرية “حياة الحشرات”، وهي المنظمة الوحيدة في أوروبا المكرسة للحفاظ على جميع اللافقاريات وإنقاذ أندر الكائنات الصغيرة في بريطانيا، كنت حريصة على اختيار عملي بعناية. حرصت على تقديم كل التفاصيل المتعلقة بالحشرة، من المعلومات العلمية الدقيقة إلى طريقة التصوير والإعدادات المستخدمة في الكاميرا.
سلطت منصات كبرى مثل CNN بالعربية الضوء على موهبتكِ.. ماذا يعني لكِ هذا الاهتمام الإعلامي؟
هذا الاهتمام الإعلامي يعني لي الكثير؛ فهو بمثابة تقدير للجهد الذي بذلته في رحلتي. إنه دافع قوي للاستمرار والتطور. عندما تسلط منصة بحجم CNN بالعربية الضوء على موهبتي، فإن ذلك يعكس أن العمل الجاد والشغف يمكن أن يصلا بصاحبهما إلى أماكن غير متوقعة. أشعر بالامتنان لأن هذا الاهتمام يساهم في إيصال رسالتي وفني إلى جمهور أوسع.

كيف تقيّمين دور المرأة العُمانية في مجالات التصوير الفني والطبيعي؟
دور المرأة العُمانية في مجالات التصوير الفني والطبيعي يشهد تطورًا ملحوظًا، حيث أثبتت المصورات العمانيات حضورهن القوي من خلال مشاركاتهن المتميزة في معارض محلية ودولية. هذه المشاركات لا تقتصر على إبراز الجمال الطبيعي لعُمان فحسب، بل تتعداها لتوثيق الحياة اليومية والتراث الثقافي، مما يساهم في تعزيز الهوية الوطنية ونقلها إلى العالم. بشكل عام، يمكن القول إن المرأة العُمانية أصبحت عنصرًا فاعلًا في المشهد الفني، وتواصل تقديم إسهامات قيمة تعكس شغفها واحترافيتها في مجال التصوير. وبالنسبة لي، يعدّ كوني جزءًا من هذا الحراك الفني النسائي في عُمان مصدر إلهام ومسؤولية في الوقت نفسه، لأن كل صورة نلتقطها تحكي شيئًا من هويتنا وتراثنا وجمال طبيعتنا.
■ الفن والرسالة
هل ترين في تصوير الحشرات بعدًا فنيًا، أم بيئيًا، أم علميًا؟
دعيني أقول إن هذه الأبعاد الثلاثة تتجمع معًا في مجال الماكرو. أرى في تصوير الحشرات مزيجًا رائعًا من الأبعاد الفنية، البيئية والعلمية. فنيًا، أُحاول إبراز الجمال المدهش في تفاصيلها، ألوانها، وتكويناتها بطريقة تلامس الإحساس وتدهش العين. بيئيًا، أؤمن أن هذا النوع من التصوير يعزز الوعي بأهمية الحشرات في التوازن الطبيعي، ويُشجّع على احترام هذا الجزء المهمل من عالمنا. أما علميًا، فهو يساعد في التوثيق والاكتشاف، ويُتيح للناس رؤية ما لا يُرى عادة بالعين المجردة. بالنسبة لي، كل صورة هي لقاء بين الفن والمعرفة والرسالة.
ما الرسالة التي تطمحين لتوصيلها من خلال أعمالك؟
من خلال أعمالي في عالم الحشرات، أطمح إلى إيصال رسالة مفادها أن الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل التي غالبًا ما نتجاهلها. أريد أن أُظهر للناس عالماً مذهلاً من الدقة والتناسق، وأن أغير نظرتهم تجاه الحشرات من مخلوقات مزعجة إلى كائنات تستحق التأمل والتقدير. كل صورة ألتقطها هي دعوة لاكتشاف هذا العالم الخفي بعين جديدة وإحساس مختلف.

هل لاحظتِ تفاعلًا خاصًا من الناس مع صور معينة نشرتِها؟
نعم، غالبًا ما تجذب الصور التي تتضمن لحظات حركية مثل الصيد، التكاثر، الانسلاخ، أو التلقيح تفاعلًا كبيرًا من الناس . كما أن الصور الفنية التي تبرز جمال الحشرات وتفاصيلها تلقى أيضًا اهتمامًا خاصًا.
■ المستقبل والطموحات
ما المشاريع أو الصور التي تعملين عليها حاليًا؟
حالياً، نأمل أن تولي هيئة البيئة اهتمامًا برسالتنا وأن تدعم إصدار كتاب يتناول الفراشات المتواجدة في البيئة العمانية، نظرًا لأهمية هذا الموضوع وفوائده الكبيرة لشريحة واسعة من المجتمع. كما أنني أعمل على خطة للتعمق في عالم المايكرو المجهري، وهو مجال يتيح لي استكشاف تفاصيل دقيقة للحشرات. وأتمنى قريبًا أن أتمكن من شراء المعدات الخاصة التي ستساعدني في التوسع في هذا المجال.

هل هناك نوع معين من الحشرات أو سلوك نادر تحلمين بتوثيقه؟
نعم، هناك حشرات وسلوكيات نادرة أرغب في توثيقها، مثل توثيق لحظة وضع حشرة أسد المن لبيضها، وكذلك توثيق حشرة الخنفساء النمرية. بالإضافة إلى ذلك، قد حظيت بفرص جميلة لتوثيق حشرات لم يتم توثيقها من قبل في السلطنة، وهو ما يعتبر إنجازًا مميزًا بالنسبة لي.
ما نصيحكِ لمن ترغب في دخول عالم تصوير الماكرو أو الحياة البرية؟
أولاً، اكتشفت أن الكاميرا أصبحت متنفسي وأن المتعة والفائدة التي حصلت عليها من تصوير الحشرات لا يمكنني العثور عليها في أي مجال آخر من مجالات التصوير. نصيحتي لمن ترغب في دخول عالم تصوير الماكرو هي أن تتحلى بالصبر والفضول. هذا النوع من التصوير يحتاج إلى دقة عالية وقدرة على ملاحظة التفاصيل الصغيرة التي غالباً ما تكون غير مرئية للعين المجردة. ابدأ بالمعدات المتاحة لك، وركّز على التعلم والتجربة بدلاً من البحث عن النتائج السريعة. الطبيعة مليئة بالعجائب، وكل لقطة ماكرو تمنحك فرصة لاكتشاف عالم جديد حتى في أبسط الأشياء. التصوير يُعلمك التأمل والتقدير لما حولك.
لمتابعة غنية في الانستغرام: ghaniya_almajrafi

