هنّ _ خاص
قد تبدو الحكاية عادية… امرأة متقاعدة من المستشفى العسكري، قضت سنواتها في خدمة الناس. لكن الحقيقة؟ هي أن التقاعد كان مجرد بداية لقصة مختلفة تمامًا. تحكيها لنا بطلتها زيون بنت محمد الجابري، والمعروفة بين الناس بـ “أم سوسن”.
عن بدايات الخير تقول أم سوسن: اشتغلت في المستشفى العسكري سنوات طويلة، وتقاعدت في عام 1999. ومن هناك، بدأت رحلتي الحقيقية مع الخير. عاهدت نفسي أن أستغل وقتي بعد التقاعد في خدمة الآخرين، وكان أول قرار اتخذته أن أقضي شهر رمضان من كل عام في الحرم المكي الشريف، حيث كنت أُفطّر الصائمين هناك من عام 1999 إلى 2018. وبعدها، بدأت رحلتي الجديدة في عُمان، وتحديدًا مع “بيت الخير”، الذي أصبح اليوم مصدر رزق وفرح لألف من الناس يوميًا، بفضل الله ثم بدعم أهل الخير.
خلال شهر رمضان الفائت، أطلقتِ مبادرة إطعام الصائمين عبر “بيت الخير”، كيف كانت التجربة، وما الدافع الحقيقي وراءها؟
التجربة كانت رائعة ومليئة بالبركة، فقد لمسنا أثر العطاء في كل يوم من أيام رمضان، سواء على وجوه المستفيدين أو في قلوب المتطوعين. الدافع الحقيقي وراءها هو الشعور بالمسؤولية تجاه المحتاجين، فإفطار الصائم ليس مجرد وجبة، بل هو رسالة حب وتكاتف بين أفراد المجتمع.
بعد هذا النجاح الكبير في رمضان، هل تنوين الاستمرار بمبادرات مشابهة على مدار العام؟
بالتأكيد، فالخير لا يقتصر على شهر رمضان فقط، وهناك العديد من الأسر والأشخاص التي تحتاج للدعم على مدار العام. أنوي الاستمرار لكن احتاج الى دعم لكي أستمر.

متى بدأ شغفكِ بالعمل الخيري؟ وما الذي دفعكِ لتكريس جزء كبير من حياتكِ لخدمة الآخرين؟
شغفي بالعطاء بدأ منذ سنوات طويلة، وتحديدًا بعد تقاعدي من المستشفى العسكري في عام 1999، حينها عاهدت نفسي أن أقضي كل رمضان في الحرم المكي الشريف، وأفطر الصائمين هناك من عام 1999 وحتى 2018. كانت تجربة روحانية عظيمة، أن ترى أثر لقمة واحدة في وجوه الصائمين قبل الأذان، وكان ذلك جزءًا من رحلتي في الخير.
لكن مع جائحة كورونا، تغيّرت الأمور، ولم أتمكن من السفر، فوجدت نفسي أبحث عن طرق أخرى للعطاء. في عام 2019، بدأتُ بمبادرة بسيطة هنا في عمان، في منطقة الموالح تحديدًا، حيث كنت أوزع الماء البارد على العمال والناس الذين يتعبون تحت حرارة الشمس. كنت أرى السعادة في أعينهم، وفكرت: “إذا كان الماء فقط يبهجهم، فكيف لو حصلوا على وجبة إفطار كاملة؟”
تحدثت مع أخواتي، وبدأنا بوجبات متواضعة— العيش والدال والماء والتمر واللبن— بمعدل 40 وجبة فقط في أول يوم. كانت خطوة صغيرة، لكنها حملت معها بركة عظيمة. واليوم، بفضل الله ثم بدعم أهل الخير، تحوّلت تلك المبادرة البسيطة إلى “بيت الخير”، الذي يوزّع أكثر من 1500 وجبة يوميًا، ليصل عطاؤه من الشمال إلى الجنوب. هذه الرحلة لم تكن مجرد مبادرة، بل أسلوب حياة ورسالة حب نؤمن بها، ونسعى لاستمرارها كل يوم.

إلى جانب إطعام المحتاجين، ما أبرز المبادرات أو المشاريع الإنسانية التي شاركتِ فيها على مدار السنوات؟
بالإضافة إلى “بيت الخير”، شاركت في العديد من المبادرات، منها:
-زيارة قسم سرطان الأطفال في مستشفى الجامعة، وإدخال الفرحة إلى قلوبهم.
-مبادرة “حفظ النعمة”، حيث يتم جمع الطعام الفائض من المناسبات وتوزيعه على المحتاجين.
-العمل في الميدان أثناء إعصار شاهين، حيث ساهمت في تنظيف المناطق المتضررة وتوزيع المساعدات على الأسر المتأثرة.
-المساهمة في بناء المساجد وحفر الآبار في الدول المحتاجة، لضمان توفير المياه الصالحة للشرب للمجتمعات الفقيرة.

هل هناك قصة أو موقف أثر فيكِ بشكل خاص خلال مسيرتكِ الخيرية؟
نعم، بعد إعصار شاهين، انتشرت رسالة بين الناس مفادها أن من لديه ملابس جديدة أو طعام فليجمعه ويوصله إلى بيت أم سوسن، وحدث هذا دون علمي. فجأة وجدتُ الناس يأتون إلى بيتي محملين بالمساعدات، دون أن أطلب ذلك. بدأنا في فرز المواد، وتجهيز الصناديق، ثم قمنا بتوزيعها في المناطق المتضررة مثل المصنعة والسويق والبداية. هذا الموقف علّمني أن الخير ينتشر بسرعة عندما يكون هناك نية صادقة، وأن الناس بطبيعتهم يحبون العطاء إذا وجدوا طريقًا واضحًا للمساعدة.
كيف توفقين بين التزاماتكِ الشخصية والعائلية وبين العمل الإنساني؟
التوازن ليس سهلًا، لكنه ممكن. بالنسبة لي، العمل الخيري ليس مجرد التزام إضافي، بل هو أسلوب حياة. عائلتي جزء من هذه المسيرة، وأحاول دائمًا تنظيم وقتي بحيث أتمكن من أداء دوري كأم ومسؤولة عن أسرتي، وفي نفس الوقت أستمر في خدمة المجتمع.
ما الدور الذي لعبه أفراد أسرتكِ في دعم مسيرتكِ الخيرية؟
أسرتي هي الداعم الأكبر، وخاصة ابنتي سوسن، التي تساعدني في إدارة المتطوعين، البحث عن الدعم، والترويج للمبادرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. العطاء أصبح جزءًا من حياتنا اليومية، والجميع يشارك بقدر استطاعته.

هل تعتمدين على تمويل شخصي لمبادراتكِ أم أن هناك جهات تدعمكِ؟
في البداية، كنت أعتمد على تمويلي الشخصي، لكن مع مرور الوقت بدأ الخير يمتد، وبدأت التبرعات تصل من أهل الخير. هناك من يتبرع بمبالغ مالية، وهناك من يقدم مواد غذائية أو خدمات لوجستية. هذا الدعم المجتمعي هو ما يجعل المبادرات تنمو وتستمر، فالمسؤولية كبيرة، والتكافل هو أساس الاستدامة.
ما هو حلمكِ الأكبر في مجال العمل الخيري؟ وهل لديكِ خطة لتحويل جهودكِ إلى مشروع أكثر استدامة؟
حلمي الأكبر هو أن يصبح “بيت الخير” مؤسسة خيرية متكاملة، بحيث لا يقتصر العمل على توزيع الوجبات فقط، بل يمتد ليشمل مشاريع مستدامة تخدم المحتاجين على المدى الطويل. أطمح إلى إنشاء مطبخ خيري يعمل طوال العام، ويوفر وجبات مجانية بشكل منتظم، إضافة إلى مشاريع تنموية تساعد الأسر المحتاجة على الاكتفاء الذاتي.
كيف يمكن للأفراد وخاصة النساء أن يكنَّ أكثر فاعلية في خدمة مجتمعاتهن؟
البداية تكون من الشيء البسيط، لا يجب أن يكون لديكِ مشروع ضخم لتُحدثي فرقًا. أي جهد مهما كان صغيرًا، سواء في مساعدة الجيران، أو دعم أسرة محتاجة، أو حتى نشر الخير بين الناس، هو خطوة في الطريق الصحيح. المهم هو أن نبدأ، والباقي يأتي تباعًا.
أخيرًا، ما الرسالة التي تودين توجيهها لكل شخص يرغب في فعل الخير لكنه لا يعرف من أين يبدأ؟
ابدأ بما تستطيع، لا تنتظر الوقت المثالي أو الموارد الكبيرة. الخير لا يحتاج إلى مجهود ضخم، بل إلى نية صادقة وعمل بسيط. ربما تكون بداية رحلتك في فعل الخير هي صدقة سرية، أو مشاركة في مبادرة، أو حتى مساعدة شخص يحتاج إلى دعم معنوي. لا تستهن بأي عمل خير، فحتى الابتسامة في وجه الآخرين تعتبر صدقة.

سوسن.. تساندين والدتك في رحلتها، وكنت العون لنا لإتمام هذا الحوار معها.. ماذا تقولين لها؟
أمي ليست فقط اسمًا في العمل الخيري، بل هي قصة عطاء تلهم كل من حولها. بيت الخير لم يكن مجرد فكرة، بل هو رسالة حب للمجتمع، بدأت بوجبة واحدة ووصلت اليوم إلى آلاف الوجبات يوميًا. ما بدأته بحبٍ وصدق، أصبح مصدر خير يمتد ليصل لكل محتاج. وما تفعله اليوم قد يكون بسيطًا، لكنه قد يكون طوق نجاة لشخص يحتاجه. الخير يكبر، والبركة تتضاعف حينما تكون النية صادقة.
أنا فخورة بكِ يا أمي، وفخورة بكل خطوة بدأتها رغم التحديات. مهما كنت بعيدة، سأظل دائمًا أساندكِ، أنسق مع المتطوعين، أبحث عن الدعم، وأحكي قصة بيت الخير في كل مكان. لأن الخير الذي زرعتيه فيني، سيبقى ممتدًا بإذن الله.



